والجواب عن ذلك من وجوه :
أحدها : ما قاله البلخي : ان القوم ما كذبوا على الحقيقة ، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق ولا يرون أنهم مشركون كالنصارى ومن أشبههم ، فقالوا في الموقف وقبل أن يقع بهم العذاب ، فيعلموا بوقوعه أنهم كانوا على باطل والله ربنا ما كنا مشركين وهم صادقون عند أنفسهم ، وكذبهم الله في ذلك ، لان الكذب هو الاخبار بالشيء لا على ما هو به ، علم المخبر بذلك أو لم يعلم ، فلما كان قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) كذبا في الحقيقة ، جاز أن يقال لهم (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).
قال البلخي : ويدل على ذلك قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ذهب عليهم وأغفلوه ، لكن هذا القول يكون عند الحشر وقبل الجزاء بدلالة أول الاية.
فصل : قوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) الاية : ٢٥.
جاز أن يقال في اللغة : جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ، كما يقول القائل لغيره : أفسدت سيفك إذا ترك استعماله حتى يصدي ، وجعلت أظافيرك سلاحا إذا لم يقلمها ، ويقال للرجل إذا أيسر من عبده أو ولده بعد الاجتهاد في تأديبه فخلاه وأقصاه قد جعلته بحيث لا يفلح أبدا وتركته أعمى وأصم وجعلته ثورا وحمارا ، وان كان لم يفعل به شيئا من ذلك ولم يرده ، بل هو مهموم به محب لخلافه.
ولا يجوز أن يكون المراد بذلك ما يقوله المجبرة من أن الله حال بينهم وبين الايمان ، لأنه لو كانا كذلك لكان قد كلفهم ما لا يطيقونه ، وذلك لا يليق بحكمته ، ولكانوا غير ملومين في ترك الايمان ، حيث لم يمكنوا منه وكانوا ممنوعين منه وكانت تكون لهم الحجة على الله تعالى ، دون أن تكون الحجة له ، وذلك باطل بل لله الحجة البالغة.