فان قيل : كيف قال ها هنا (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقال في موضع آخر (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (١) وقال في موضع آخر (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (٢) وقال (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) وقال في موضع آخر (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (٤) وهل هذا الا ظاهر التناقض؟
قلنا : لا تناقض في ذلك ، لان معنى قوله «وقفوهم انهم مسؤولون» انما يسألون سؤال توبيخ وتقرير وتقريع لا يجاب الحجة عليهم لا سؤال استفهام ، لأنه تعالى عالم بذلك لنفسه.
وقوله «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان» أي : لا يسأل ليعلم ذلك منه ، من حيث أنه تعالى قد علم أعمالهم قبل أن يعملوها. وقيل : معناه انه لا يسأل عن ذنب المذنب انس ولا جان غيره ، وانما يسأل المذنب لا غير. وكذلك قوله «يوم لا ينطقون» أي : لا ينطقون بحجة ، وانما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم ولوم بعضهم بعضا وطرح بعضهم على بعض الذنوب.
فأما التكلم بحجة فلا ، وهذا كما يقول القائل لمن يخاطب بخطاب كثير فارغ من الحجة ما تكلمت بشيء ، فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم كما قال (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥) وهم كانوا يبصرون ويسمعون.
وقال بعضهم : ان ذلك اليوم يوم طويل له مواضع ومواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام ، وفي بعضها يطلق لهم ذلك ، بدلالة قوله «يوم يأتي لا تكلم نفس الا باذنه» وكلاهما حسن ، والاول أحسن.
__________________
(١). سورة المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦.
(٢). سورة النحل : ١١١.
(٣). سورة الصافات : ٢٤.
(٤). سورة الرحمن : ٣٩.
(٥). سورة البقرة : ١٧١.