وعليه فالغلوّ هو عنوان مشكَّكٌ يطلق تارة على مدّعي الربوبية لأشخاص بالخصوص حقيقةً ، وقد تكون تهمةً ، إذ أنّ الأمر ليس كذلك ؛ لأنّ الله قد منح لبعض من اصطفاهم من عباده أشياءً خاصة من قبيل إحياء الموتى بإذن الله وإبراء الأكمه بإذنه ، ومن هنا بَدَأَ الصراع بين الاتجاهات الثلاثة عقائدياً .
فمنهم من يرى كذبها ؛ لعدم تحمّل عقولهم لها ، ومنهم من يرى أنّهم آلهة أو مفوَّضين من قبل الله سبحانه وتعالى حقّاً ، وكثير من هؤلاء التبس عليهم الأمر أوّلاً ثمّ رجعوا عما كان يقولون به لمّا اتّضح لهم وجه الأمر .
ومنهم من لا يرى سوى أنّهم عبيدٌ اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لطهارة أصلهم ، يقدرون على ما لا يقدر عليه عامة البشر ، بإذن الله لا غير ، ولو شاء الله لسلبهم هذه القدرة بطرفة عين . .
قال الشيخ المفيد : إنّ الأئمّة من آل محمّد صلىاللهعليهوآله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم ، وإنّما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إيّاه للّطف في طاعتهم والتّمسّك بإمامتهم ، وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنّه وجب لهم من جهة السّماع . فأمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من عَلِمَ الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلّا الله عزّ وجلّ ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامية إلّا من شذّ عنهم من المفوّضة ومن انتمى إليهم من الغلاة (١) .
وعليه فإنّ الاختلاف الملحوظ بين العلماء يرجع إلى فَهْمَيْن لطائفة من الروايات يتمسّك بها كلّ واحد في ما يريد الوصول إليه وما يعتقد أنه المراد
__________________
(١) أوائل المقالات : ٦٧ المطبوع ضمن مجموعة الشيخ المفيد ج ٤ .