الصحيح من تلك الروايات (١) ، وليس رميُ بعض لبعض للعداوة أو للجُزاف كما قد يتصوّره البعض ، على أنّنا في الوقت نفسه لا ننكر تسرّع البعض في إطلاق الأحكام على الآخرين قبل التروّي والتأنّي .
وبذلك يكون سلاح التفويض والتقصير ذا حَدَّين يستخدم من كلّ جانب للاطاحة بالآخر ، وكلا الطرفين يستخدمه حرصاً على الإسلام ومتبنّياته العقائدية .
فنحن لو تناسينا الاتّجاهين المقصِّر والغالي الواقعيَّين ، فإنّ النَّمرقة الوسطى ( الاتّجاه الثالث ) كان خائفاً من دخول أفكار هذين الاتّجاهين ضمن كلام محدّثيهم ورواتهم .
فالبغداديون المتَّهمون بالغلوّ ليسوا بغلاة ولا مقصِّرة ، كما أنّ الشيعة القميّين ليسوا كذلك أيضاً ؛ لكن مع ذلك نرى صراعاً بين المدرستين البغدادية والقمّيّة ، واتّهامَ كُلِّ واحد منهما للآخر بالتفويض والتقصير ، مع اعتقادهما سويّةً بأنّ الأئمّة سلام الله عليهم بشرٌ معصومون لا قدرة لهم على شيء إلّا ما أعطاهم الله على نحو الاصطفاء والاجتباء ، على منوال المسيح عيسى بن مريم سلام الله عليه الذي كان يحيي الموتى ويُبرئُ الأكمَه بإذنه تعالى . ولا يمكن احتمال شيء في هذا الصراع سوى الخوف على المذهب من قِبَل كِلا المدرستين .
فالمدرسة القميّة تشدّدت في بعض الأفكار ، وعلى بعض الرواة ، خوفَ الوقوع في مهلكة التفويض والغلوّ ، والمدرسة البغدادية أرادت تحرير العقيدة من ذاك التشديد ، خوفَ الوقوع في زنزانة التقصير والتفريط بمقامات الأئمّة سلام الله عليهم .
ولو تأمّلت في روايات وأقوال الطرفين لصدّقتنا في مدّعانا ، لأنّك قد ترى ما يستشم منه الغلوّ في مرويّات القميين ـ المتهجّمين على الغلاة ـ لأنّ الأصول المعرفية التي رواها القميون فيها الكثير من المعارف التي لا يتحمّلها بعض البشر ، فمثلاً روى
__________________
(١) انظر على سبيل المثال ما جاء في علم الإمام في الكافي ١ : ٢٣٩ ، ٢٥٥ ، ٢٢٣ ، ٢٢٨ ، ٢٢١ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٣ ، ٢٧٤ ، ٢٩٤ ، ٢٩٧ .