عزوجل لرابطة الجنسية التي بينهم وبين نفسه ، ومكان الإرادة والمحبة التي تستلزم قربهم منه وامتزاجهم به (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً) مطهرا ، مصفيّا لاستعدادهم بنوره ، إذ قبول التوبة هو إلقاء نور الصفات عليهم ، وتنوير بواطنهم بهيئة نورية تعصمهم من الخطأ في الأفعال لبعد النور عن الظلمة (رَحِيماً) يفيض عليهم رحمة الكمال اللائق بهم من الإيقان العلميّ أو العينيّ أو الحقيّ.
[٦٥] (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الإيمان الحقيقي التوحيدي (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) لكون حكمك حكم الله ، وإنما حجبت الذات بالصفات ، والصفات بالأفعال ، فإذا تشاجروا وقفوا مع صفاتهم محجوبين عن صفات الحق أو مع أفعالهم محجوبين عن أفعال الحق ، فلم يؤمنوا حقيقة. فإذا حكموك انسلخوا عن أفعالهم ، وإذا لم يجدوا في أنفسهم حرجا من قضائك انسلخوا عن إرادتهم فصاروا إلى مقام الرضا ، وعن علمهم وقدرتهم فصاروا إلى مقام التسليم فلم يبق لهم حجاب من صفاتهم واتصفوا بصفات الحق فانكشف لهم في صورة الصفات فعلموا أنك هو قائم به ، لا بنفسك ، عادل بالحقيقة بعدله ، فتحقق إيمانهم بالله.
[٦٦ ـ ٦٨] (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩))
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) أي : فرضنا (عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بقمع الهوى الذي هو حياتها وإفناء صفاتها (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) مقاماتكم التي هي الصبر والتوكل والرضا وأمثالها ، لكونها حاجبة عن التوحيد كما قال الحسين بن منصور قدّس الله روحه لإبراهيم بن أدهم رحمهالله ، لما سأله عن حاله ، وأجابه بقوله : أدور في الصحاري ، وأطوف في البراري ، حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر ، هل يصح حالي في التوكل أم لا؟ ، فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء في التوحيد؟.
(ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم : المحبون المستعدّون للقائه ، الأكثرون قدر الأقلون عددا كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) بحسب كمالهم الحاصل لهم عند رفع حجب صفات النفس بالاتصاف بصفات الحق أو بالوصول إلى عين الجمع (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) بالاستقامة في الدين عند البقاء بعد الفناء (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) من
__________________
(١) سورة ص ، الآية : ٢٤.