المغوية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) لأني لا أبطل أعمالك التي هي شديدة في مواضعها من المحسوسات ولا أقطع عنك حياتك التي هي مدد النفس والهوى ولا أمنعك عن فعلك الخاص بك إذ العقل يعلم أنّ المصالح الجزئية وأحكام المحسوسات والمعاني الجزئية المعلقة بها وترتيب أسباب المعاش كلها لا تحصل ولا تتيسر إلا بالوهم ولو لا الرجاء وحصول الأماني والآمال الصادرة عن الوهم لم يتيسر لأحد ما يتمعش به (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) لأني أعرفه ، وقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) واعلم بأنه إنما خلقك لشأن وأوجدك لحكمة ، فلا أتعرّض له في ذلك (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) بإثم قتلي وإثم قتلك من الآراء الباطلة والتصوّرات الفاسدة التي لم يتقبل قربانك لأجلها (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ) نار الحجبة والحرمان (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الواضعين الأشياء في غير موضعها كوضعك الأحكام الحسيّة في المعقولات.
[٣٠ ـ ٣٤] (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))
(فَطَوَّعَتْ) فسهلت وسوّلت (لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لتضرره باستيلائه على العقل واستبدال ضلالته وخطأه بهداية العقل وصوابه ، فإنّ الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس بأنواع التسويلات والتزيينات على إقدام أمور يتضرّر به النفس والبدن جميعا ، كالإسرافات المذمومة من باب اللذات البهيمية ، والسبعية مثل شدّة الحرص في طلب المال والجاه والإفراط فيضعف الوهم أيضا أو يبطل (فَبَعَثَ اللهُ) غراب الحرص (يَبْحَثُ فِي) أرض النفس (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي : الوهم ، إذ بقطع العقل عن نور الهداية وحجبها عن السير في العالم العلوي لتحصيل الكمال وطلب سعادة المآل تحير في أمره ، فانبعث الحرص فهداه في تيه الضلالة وأراه كيف يواري ويدفن عورته أي : جثته المقتولة التي حملها الوهم على ظهره حتى
__________________
(١) سورة فاطر الآية : ٢٨.