(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ) المحجوبون المكذبون بلقاء الحق (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ) القيامة الصغرى ندموا على تفريطهم فيها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) من أعباء التعلقات ، وأفعال محبة الجسمانيات ، ووبال السيئات ، وآثام هيآت الحسيّات (عَلى ظُهُورِهِمْ) أي : ارتكبتهم واستولت عليهم للرسوخ في نفوسهم فحجبتهم وعذّبتهم وثبطتهم عما أرادوا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : الحياة الحسيّة ، لأن المحسوس أدنى إلى الخلق من المعقول (إِلَّا لَعِبٌ) أي : إلا شيء لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي : عالم الروحانيات (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) يتجرّدون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حتى تختاروا الأشرف الأطيب على الأخس الأدون الفاني.
[٣٣ ـ ٣٧] (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) عتاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بظهور نفسه بصفة الحزن (لا يُكَذِّبُونَكَ) إلى آخره ، أي : ليس إنكارهم تكذيبك لأنك لست في هذه الدعوة قائما بنفسك ولا هذا الكلام صفة لك ، بل تدعوهم بالله وصفاته وهذه عادة قديمة (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا) بالله ، سلّاه بالله بعد ما عاتبه لئلا يبقى في التلوين ولا يتأسف بعد ذهابه عليه فيقع في القبض بل يطمئن قلبه ، ولهذا عقبه بقوله : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي : صفات الله التي يتجلى بها لعباده ولا تتغير ولا تتبدّل بإنكار المنكرين ولا يمكنهم تبديلها. ونفى عنه القدرة وعجزه بقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إلى آخره ، لئلا تظهر نفسه بصفاتها (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات ، فتتأسف على احتجاب من احتجب. فإن المشيئة الإلهية اقتضت هداية بعض وحرمان بعض لحكمة ترتب النظام وظهور الكمالات الظاهرة والباطنة ، فلا يستجيب إلا من فتح الله سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفات الاستعداد ونور الفطرة ، لا موتى الجهل الذين ماتت غريزتهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية ، أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم لا يمكنهم السماع ، بل : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) بالإعادة في النشأة الثانية (ثُمَّ إِلَيْهِ