الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) بتجليات صفاتنا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم (صُمٌ) بآذان القلوب فلا يسمعون كلام الحق (وَبُكْمٌ) بألسنتها التي هي العقول فلا ينطقون بالحق في ظلمات صفات نفوسهم وجلابيب أبدانهم وغشاوات طبائعهم كالدواب ، فكيف يصدّقونك وما هداهم الله لذلك بالتوفيق (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) بإسبال حجب جلاله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بإشراق نور وجهه وسبحات جماله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) إلى آخره ، أي : كل مشرك عند وقوعه في العذاب أو عند حضور الموت إن فسرنا الساعة بالقيامة الصغرى أو رفع الحجاب بالهداية الحقانية إلى التوحيد الحقيقي ، إن فسرناها بالقيامة الكبرى يتبرّأ عن حول من أشركه بالله وقوته ويتحقق أن لا حول ولا قوة إلا بالله ولا يدعو إلا الله ، وينسى كل من تمسك به وأشركه بالله من الوسائل ، ولهذا قيل : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق عباده. أما ترى كيف عقب كلامه بمقارنة الأخذ بالبأساء والضرّاء بإرسال الرسل.
لعل تضاعف أسباب اللطف ، كقود الأنبياء وسوق العذاب ، يزعجهم عن مقارّ نفوسهم ويكسر سورتها وشدّة شكيمتها ، فيطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرّعين عند تجلي صفة القهر وتأثيرها فيهم ، ثم بيّن أنهم ما تضرّعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشّ الهوى وحب الدنيا وميل اللذات الجسمانية.
[٥١] (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي : أنذر بما أوحى إليك المستعدّين الذين هم أهل الخوف والرجاء ، وأعرض عن الذين قست قلوبهم فإنه لا ينجع فيهم كما قال في أوّل الكتاب : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١). (أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي : يعلمون بصفاء استعدادهم أنه لا بد من الرجوع إلى الله ، فيخافون أن يحشروا إليه في حال كونهم محجوبين عنه بحجب صفاتهم وأفعالهم لا وليّ ينصرهم غير الله فينقذهم من ذلّة البعد وعذاب الحرمان ، ولا شفيع يشفع لهم فيقرّبهم منه ، ويكرمهم لفناء الذوات والقدر كلها في الله ، وقهره إياهم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)) (٢) ، فيتعظون بسماعهم له ويحدث فيهم الرجاء فيشمرون في السلوك بالجدّ والاجتهاد (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يحذروا حجب أفعالهم وصفاتهم وذواتهم ، ويتجرّدوا
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٢.
(٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.