(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) من هذه القوى للانقياد للعقل (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) أي : يسهل عليه ويجعل وجهه الذي يلي القلب ذا نتوء وسعة لقبول نوره وممكنا من استسلامه له (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ) يعسر عليه ويعجزه عن ذلك (حَرَجاً) ذا ظلمة وقصور استعداد عن قبول النور كأنما يزاول أمرا ممتنعا في الاستنارة بنور القلب وطلب الفيض منه. على هذا التأويل الذي ذكرناه وعلى المعنى الظاهر المراد من الآية السابقة. فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره بقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس ، فيفسح لقبول نور الحق. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلائها عليه وضغطها له (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) في سماء روحه مع تلك الهيآت البدنية وذلك أمر محال.
(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ) رجس التلوّث بلوث التعلقات المادية أو رجس التعذب بالهيئات البدنية (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهذا) أي : طريق التوحيد وإسلام الوجه إلى الله (صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه بوجه من الوجوه يميل إلى جانب الصورة وإلى جانب المعنى أو إلى النظر إلى الغير والشرك به (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) المعارف والحقائق التي هي مركوزة في استعدادهم فيهتدوا بها (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) السلامة من كل نقص وآفة وخوف ظهور صفة ووجود بقية (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في حضرة صفاته أو حضرة ذاته (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يعطيهم محبته وكماله ، ويدخلهم في ظل صفاته وذاته ، ويجعلهم في أمانه بالبقاء السرمدي بعد فناء حدثانهم بسبب أعمالهم القلبية والقالبية في سلوكهم.
[١٢٨] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) في يوم عين الجمع المطلق (جَمِيعاً). قلنا (يا مَعْشَرَ) جنّ القوى النفسانية (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي : من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم إياهم ، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية واللذات الجسمانية عليهم ، ووسوستكم إياهم بالمعاصي (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الذين تولّوهم (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) بانتفاع كل منا في صورة الجمعية بالآخر (وَ) قد (بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) بالموت أو بالمعاد الجسماني على أقبح الصور وأسوأ العيش (قالَ النَّارُ) نار الحرمان عن اللذات ووجدان الآلام (مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا) وقت (ما شاءَ اللهُ) أن تخفّف ، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذبه شركا راسخا في اعتقاده (إِنَّ رَبَّكَ