الله عنه : إن هذه آيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب. واتفق على قوله أهل الكتابين وجميع الملل والنحل. وقال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنها لأول شيء في التوراة. (ذلِكُمْ) أي : ما ذكر من وجوب الانتهاء عن جميع الرذائل والاتصاف بجميع الفضائل (وَصَّاكُمْ بِهِ) في جميع الكتب على ألسنة جميع الرسل (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) عند سماعها ما وهب الله لكم من الكمال وأودع استعدادكم في الأزل.
[١٥٣ ـ ١٥٤] (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))
(وَأَنَّ هذا) أي : طريق الفضائل لأن منبع الفضيلة هي الوحدة. ألا ترى أنها أواسط واعتدالات بين طرفي إفراط وتفريط لا يمكن سلوكها على التعيين بالحقيقة إلا لمن استقام في دين الله إليه وأيده الله بالتوفيق لسلوك طريق الحق حتى وصل إلى الفناء عن صفاته ثم عن ذاته. ثم اتصف في حال البقاء بعد الفناء بصفاته تعالى حتى قام بالله فاستقام فيه وبه فحينئذ يكون صراطه صراط الحق وسيره سير الله (صِراطِي مُسْتَقِيماً) أي : طريقي لا يسلكها إلا من قام بي مستويا غير مائل إلى اليمين والشمال لغرض (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) من المذاهب المتفرقة والأديان المختلفة فإنها أوضاع وضعها أهل الاحتجاب بالعادات والأهواء ، أي : وضع لهم لئلا يزدادوا ظلمة وعتوّا وحيرة. وروى ابن مسعود عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أنه خطّ خطّا فقال : «هذا سبيل الرشاد» ، ثم خطّ عن يمينه وشماله خطوطا فقال : «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم تلا هذه الآية : (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ) أي : سلوك طريق الوحدة والفضيلة (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) السبل المتفرقة بالاجتناب عن مقتضيات الأهواء ودواعي النفوس وتجعلون الله وقاية لكم في ملازمة الفضائل ومجانبة الرذائل.
(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : بعد ما وصّاكم بسلوك طريق الفضيلة في قديم الدهر (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (١) (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي : تتميما لكرامة الولاية ونعمة النبوّة مزيدا على الذي أحسنه موسى من سلوك طريق الكمال وبلوغه إلى ما بلغ من مقام المكالمة والقرب بالوجود الموهوب بعد الفناء في الوحدة ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) بالتكميل ودعوة الخلق إلى الحق (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الخلق في المعاد (وَهُدىً) لهم إلى ربّهم في سلوك سبيله (وَرَحْمَةً) عليهم بإفاضة
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٣.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.