القلب وانجذابه إلى جانبه للنازل النوريّ والخاطر الروحي الذي يصرفه عن جهة النفس ويأمره بالإعراض عن عملها ويذكره لئلا يحدث الميل مرة أخرى. وتأثير ذلك الوارد والخاطر في النفس بالتنوير والتصفية فإن تنوّرها بنور الروح المنعكس إليها من القلب استغفارها عن الهيئة المظلمة التي غلبت بها على القلب ، ولما بلغ القلب هذا المنزل من الاتصال بالروح والاستشراق من نوره وتنوّرت النفس بشعاع نور القلب وتصفت عن كدوراتها عشقته للاستنارة بنوره ، والتشكّل بهيئته ، والتقرّب إليه ، وإرادة الوصول إلى مقامه لا لجذبه إلى نفسه وقضاء وطرها منه باستخدامها إياه في تحصيل اللذات الطبيعية واستنزالها إياه عن مقامه ومرتبته إلى مرتبتها ليتشكل بهيئتها ويشاركها في أفعالها ولذاتها ، كما كانت عند كونها أمّارة فتتأثر قواها حينئذ حتى القوى الطبيعية بتأثرها ، وذلك معنى قول نسوة المدينة : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) وكلما استولى القلب عليها بهيئته النورية وحسنه الذاتي الفطري والصفاتي الكسبيّ من الترقي إلى مجاورة الروح وبلوغه منزل السرّ ، استنارت جميع القوى البدنية بنوره لاستتباعه للنفس واستتباعها إياه ، فشغلت عن أفعالها وتحيرت ووقفت عن تصرفاتها في الغذاء وذهلت عن سكاكين آلاتها التي كانت تدبر بها أمر التلذذ والتغذي والتفكه ، وجرحت قدرتها التي تستعمل بها الآلات في تصرفاتها وبقيت مبهوتة في متكآتها التي هي محالها في أعضاء البدن التي هيأتها لها النفس في قراها وهو معنى قوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) وقولها : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) استجلاؤها لنوره بالإرادة واقتضاؤها طلوعه عليها بحصول استعداد التنوّر لها. ولما انخرطت النفس في سلك إرادة القلب ، وقلّت منازعتها إياه في عزيمة السلوك ، وتمرّنت لمطاوعته حان وقت الرياضة بالدخول في الخلوة لتجرّد القلب حينئذ عن علائقه وموانعه وتجريده عزمه بانتفاء التردد إذ بتردّد العزم بانجذابه إلى جهة النفس تارة وإلى جهة الروح أخرى لا تمكن الرياضة ولا السلوك ولا تصح الخلوة لفقدان الجمعية التي هي من شرطها وهذه الرياضة ليست رياضة النفس بالتطويع فإنها لا تحتاج إلى الخلوة بل إلى ترك ارتكاب المخالفات والإقدام على كسرها وقهرها بالمقاومات من أنواع الزهد والعبادة إنما هي رياضة القلب بالتنزّه عن صفاته وعلومه وكمالاته وكشوفه في سلوك طريق الفناء وطلب الشهود واللقاء وذلك بعد العصمة من استيلاء النفس عليه كما قالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) طلب العصمة من نفسه واستزادها (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) من إيفاء حظي ليمنعنّ من اللذات البدنية وروح الهوى والمدركات الحسيّة بالخلوة والانقطاع عنها (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) لفقدان كرامته وعزّته عندنا واختذالنا عنه واعتزاله عن رئاسة الأعوان والخدم في البدن. ولما حببت إليه الخلوة كما حببت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند التحنث في حراء.