لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))
ولما رجع إلى مقام التفصيل وجلس على سرير الملك للخلافة. جاءه أخوته القوى الحيوانية بعد طول مفارقته إياهم في سجن الرياضة والخلوة بمصر الحضرة القدسية والاستغراق في عين الجمع (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) متقربين إليه بوسيلة التأدّب بآداب الروحانيين لاطمئنان النفس وتنوّرها وتنوّر تلك القوى بها وتدرّبها بهيئات الفضائل والأخلاق ممتارين لأقوات العلوم النافعة من الأخلاق والشرائع (فَعَرَفَهُمْ) مع حسن حالهم وصلاحهم بالذكاء والصفاء وفقرهم واحتياجهم إلى ما يطلبون منه من المعاني (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لارتقائه عن رتبتهم بالتجرّد واتصافه بما لا يمكنهم إدراكه من الأوصاف ولهذا استحضر القوّة العاقلة العملية بقوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إذ المعاني الكلية المتعلقة بالأعمال لا يدركها إلا تلك القوة. واعلم أنّ المحبوبين يسبق كشوفهم اجتهادهم فيعلمون قواهم الشرائع والأحكام ويسوسونها بعد الوصول وإن اطمأنت نفوسهم قبله.
وأما جهازهم الذي جهزهم به فهو الكيل اليسير من الجزئيات التي يمكنهم إدراكها والعمل بها ، وقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ) من المعاني الكلية الحاصلة (عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) لبعد رتبتكم عن رتبتي إلا بواسطته. ولما كانت العاقلة العملية إذا لم تفارق مقام العقل المحض إلى مقام الصدر لم يمكنها مرافقة القوى الحسيّة وإلقاؤها المعاني الجزئية الباعثة إياها على العمل وتحريك القوة النزوعية الشوقية نحو المصالح العقلية (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي : بتصفية الاستعداد لقبول فيضه وقوله (لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) إشارة إلى أمر القلب فتيانه القوى النباتية عند تمتيع النفس حالة الاطمئنان بإيراد موادّ قواهم التي يتقوون بها ويقتدرون على كسب كمالاتهم إذ هي بضاعتهم التي يمكنهم بها الامتيار ، ورحالهم آلات إدراكاتهم ومكاسبهم (لَعَلَّهُمْ) يعرفون قواهم وقدرهم على الاكتساب (إِذَا