على استشراق الأنوار القدسية واستنزال الأحكام الشرعية واستخراج قواعدها التي لا مدخل لي فيها ، فلا بدّ لي من فراقهم إلى أوان فراغهم إلى رعاية مصالح الجانبين والوفاء بكلا الأمرين ، أي : المعاش والمعاد ، فإنّ العقل كما يقتضي طلب الكمال وإصلاح المعاد ، يقتضي صلاح البدن وترتيب المعاش وتعديل المزاج بالغذاء وتربية القوى باللذات ، أو فأمري صبر جميل على ذلك (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) من جهة الأفق الأعلى والترقي عن طوري إلى ما يقتضيه نظري ورأيي من مراعاة الطرفين ومقامي ومرتبتي من اختيار التوسط بين المنزلتين (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بالحقائق (الْحَكِيمُ) بتدبير العوالم ، فلا يتركهم مراعين للجهة العلوية ، ذاهلين عن الجهة السفلية ، فيخرّب مدينة البدن ويهلك أهلها ، وذلك قبل التمتيع التام الذي أشرنا إليه إذ هو مقام الاجتهاد بعد الكشف والسلوك في طريق الاستقامة بعد التوحيد (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : أعرض عن جانبهم وذهل عن حالهم ، لحنينه إلى يوسف القلب وانجذابه إلى جهته.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أولا بوقوعه في غياهب الحبّ وكلال قوة بصيرته لفرط التأسف على فراقه ثم بترقيه عن طوره وفنائه في التوحيد وتخلفه عنه وعدم إدراكه لمقامه وكماله ، فبقي بصره حسيرا غير بصير بحال يوسف (فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من فراقه.
وقولهم : (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) إشارة إلى شدّة حنينه ونزوعه وانجذابه إلى جهة القلب في تلك الحالة دونهم لشدة المناسبة بينهما في التجرّد والميل إلى العالم العلوي. وقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إشارة إلى علم العقل برجوع القلب إلى عالم الخلق ووقوفه مع العادة بعد الذهاب إلى الجهة الحقانية وانخلاعه عن حكم العادة عن قريب ، كما سئل أحدهم : ما النهاية؟ قال : الرجوع إلى البداية. ولهذا العلم قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) وذلك عند فراغه عن السلوك بالكلية ووصول أثر ذلك الفراغ إلى العقل بقربه إلى رتبته في التنزل والتدلي فيأمر القوى باستنزاله إلى مقامهم بطلب الحظوظ في صورة الجمعية البدنية وتدبير معاشهم ومصالحهم الجزئية ، وذلك هو الروح الذي نهاهم عن اليأس منه ، إذ المؤمن يجد هذا الروح والرضوان في الحياة الثانية التي هي بالله فيحيا به ويتمتع بحضوره بجميع أنواع النعيم ولذات جنّات الأفعال والصفات والذات بالنفس والقلب والروح دون الكافر كما قال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).
وقولهم : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) إشارة إلى عسرهم وسوء حالهم ، وضيقهم في الوقوف مع الحقوق (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) إلى ضعفهم لقلّة مواد قواهم وقصور غذائهم عن بلوغ مرادهم.
وقولهم : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) استعطافهم إياه بطلب الحظوظ. وقوله :