(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : المركبات التي لم ترزق غيرهم من المخلوقات (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) أي : ما عدا الذوات المقدّسة من الملأ الأعلى ، وأما أفضلية بعض الناس كالأنبياء على الملائكة المقرّبين فليست من جهة كونهم بني آدم فإنهم من تلك الحيثية لا يتجاوزون مقام العقل بل من جهة السرّ المودع فيهم المشار إليه بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) وهو ما أعدّ لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة بواسطة الجمعية التي فيه ، أي : مقام الوحدة ، وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة |
|
فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي |
بل هو عين المكرّم المعروف كما قيل :
رأيت ربي بعين ربي |
|
فقال من أنت قلت أنت |
وقد فنى ابن آدم في هذا المقام وما بقي منه شيء وإلا فما للتراب وربّ الأرباب ، أو ولقد كرّمنا بني آدم بالتقريب ومعرفة التوحيد وحملناهم في بر عالم الأجساد وبحر عالم الأرواح بتسييره فيهما لتركيبه منهما وإرقائه عنهما في طلب الكمال ورزقناهم من طيبات العلوم والمعارف ، وفضلناهم على الجم الغفير ممن خلقنا ، أي : جميع المخلوقات ، على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف أي كثير ، وأي كثير وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم (تَفْضِيلاً) تاما بيّنا.
[٧١] (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١))
(يَوْمَ نَدْعُوا) إلى آخره ، أي : نحضر (كُلَ) طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه من الكمال ويعرفونه سواء كان في صورة نبيّ آمنوا به كما ذكر في تفسير قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٢) أو إمام اقتدوا به أو دين أو كتاب أو ما شئت على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي : من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه وبعث في صورة السعداء (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ)
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٠.
(٢) سورة النساء ، الآية : ٤١.