(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو الحبّ الباعث على السلوك في الله الذي يسمونه الإرادة ، وإتيانه من أقصى المدينة : انبعاثه من مكمن الاستعداد عند قتل هوى النفس (يَسْعى) إذ لا حركة أسرع من حركته يحذره عن استيلائهم عليه وينبهه على تشاورهم وتظاهرهم عند ظهور سلطان الوهم عليه ومقابلته ومماراته ومجادلته له على هلاكه بالإضلال (فَاخْرُجْ) عن مدينتهم حدود سلطنتهم إلى مقام الروح (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ) بالأخذ في المجاهدة في الله ودوام الحضور والمراقبة (خائِفاً) من غلبتهم ، ملتجأ إلى الله في طلب النجاة من ظلمهم.
[٢٢] (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) مقام الروح ، غلب رجاؤه على الخوف لقوّة الإرادة وطلب الهداية الحقانية بالأنوار الروحية والتجليات الصفاتية إلى سواء سبيل التوحيد وطريقة السير في الله.
[٢٣ ـ ٢٤] (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))
(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي : مورد علم المكاشفة ومنهل علم السرّ والمكالمة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) من الأولياء والسالكين في الله والمتوسطين الذين مشربهم من منهل المكاشفة (يَسْقُونَ) قواهم ومريديهم منه ، أو العقول المقدّسة والأرواح المجرّدة من أهل الجبروت فإنها في الحقيقة أهل ذلك المنهل ، يسقون منه أغنام النفوس السماوية والإنسية وملكوت السموات والأرض (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) من مرتبة أسفل من مرتبتهم (امْرَأَتَيْنِ) هما العاقلتان النظرية والعملية (تَذُودانِ) أغنام القوى عنه لكون مشربها من العلوم العقلية والحكمة العملية قبل وصول موسى القلب إلى المناهل الكشفية والموارد الذوقية ولا نصيب لها من علوم المكاشفة (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي : شربنا من فضلة رعاء الأرواح والعقول المقدّسة عند صدورها عن المنهل متوجهة إلينا ، مفيضة علينا فضلةالماء (وَأَبُونا) الروح (شَيْخٌ كَبِيرٌ) أكبر من أن يقوم بالسقي (فَسَقى لَهُما) من مشرب ذوقه ومنهل كشفه بالإفاضة على جميع القوى من فيضه ، لأن القلب إذا ورد منهلا ارتوى من فيضه في تلك الحالة جميع القوى وتنوّرت بنوره (ثُمَّ تَوَلَّى) من مقامه (إِلَى الظِّلِ) أي : ظل النفس في مقام الصدر