(إِلَّا مَنْ تابَ) عن الذنب الأول فرجع إلى مقام القلب (وَآمَنَ) باليقين (وَعَمِلَ صالِحاً) باكتساب الفضيلة (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) المطلقة بحسب استحقاقهم ودرجتهم في الإيمان والعمل (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون مما اقتضاه حالهم ومقامهم (شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ) مرتبة بحسب درجاتهم في مقام النفس والقلب والروح (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) المفيض بجلائل النعم وأصولها وعمومها (عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) في حالة كونهم غائبين عنها (إِلَّا سَلاماً) أي : ما يسلمهم من النقائص ويجردهم عن المواد من المعارف والحكم (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : دائما أو بكرة في جنة القلب وقت ظهور نور شمس الروح ، وعشيّا في جنة النفس وقت غروبه.
(تِلْكَ الْجَنَّةُ) المطلقة التي تقع على واحدة منها (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) مطلقا بحسب تقواه ، فإن اتقى الرذائل والمعاصي نورثه جنة النفس أي جنة الآثار ، وإن اتقى أفعاله بالتوكل فله جنة القلب وحضور تجليات الأفعال ، وإن اتقى صفاته في مقام القلب فله جنة الصفات ، وإن اتقى ذاته ووجوده بالفناء في الله فله جنة الذات.
[٦٤ ـ ٧٠] (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) تنزّل الملائكة واتصال النفس بالملإ الأعلى إنما يكون بأمرين : استعداد أصلي وصفاء فطري يناسب به جوهر الروح العالم الأعلى ، واستعداد حاليّ بالتصفية والتزكية ولا يكفي مجرد حصولها فيه ، بل المعتبر هو الملائكة. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١) كيف رتّب التنزل على الاستقامة التي هي التمكين الدال على الملكة. وإلى قوله في تنزّل الشياطين : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٢) كيف أورد في حصول استعداد تنزّلهم بناء المبالغة الدال على الملكة والدوام فكذا لا تتنزل الملائكة إلا على الصدّيق الخير. وهذا الاستعداد الثاني إذا اجتمع مع الأول كان علامة إذن الحق وأمره ، إذ الفيض عام ، تام ، غير منقطع ، فحيث تأخر إنما تأخر لعدم الاستعداد ، فلذا لما استبطأ الوحي وقلّ صبره نزلت ، أي : وما نتنزّل باختيارنا بل باختياره وأمره ليس إلا.
__________________
(١) سورة فصلت ، الآية : ٣٠.
(٢) سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٢.