(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي : بلغ حدّ الكمال الذي هو أقصر الأجلين (وَسارَ بِأَهْلِهِ) من القوى بأسرها إلى جانب القدس مستصحبا للجميع بحيث لم يمانعه ولم يتخلف عنه واحدة منها ، وحصل له ملكة الاتصال للتدرب في المجاهدة والمراقبة بلا كلفة (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) طور السرّ الذي هو كمال القلب في الارتقاء نار روح القدس وهو الأفق المبين الذي أوحى منه إلى من أوحى إليه من الأنبياء (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي : مقام كمال القلب المسمى سرّا من شجرة نفسه القدسية (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) وهو مقام المكالمة والفناء في الصفات فيكون القائل والسامع هو الله ، كما قال : «كنت سمعه الذي به يسمع ، ولسانه الذي به يتكلم». وإلقاء العصا والإدبار وإظهار اليد البيضاء مرّ تأويله في سورة (النمل).
(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي : لا تخف من الاحتجاب والتلوين عند الرجوع من الله واربط جأشك بتأييدي آمنا متحققا بالله. وقد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد قدّس الله روحه العزيز في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي في شهود الوحدة ومقام الفناء ذا ذوق عظيم ، فإذا هو في بعض الأيام يبكي ويتأسف ، فسأله الشيخ عن حاله ، فقال : إني حجبت عن الوحدة بالكثرة ، ورددت ، فلا أجد حالي. فنبّهه الشيخ على أنه بداية مقام البقاء ، وإن حاله أعلى وأرفع من الحال الأولى وأمنه (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) من التمتع المذكور.
[٣٤] (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))
(وَأَخِي هارُونُ) العقل (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) لأن العقل بمثابة لسان القلب ولولاه لم يفهم أحوال القلب ، إذ الذوقيات ما لم تدرج في صورة المعقول وتتنزل في هيئة العلم والمعلوم ، وتقرب بالتمثيل والتأويل إلى مبالغ فهوم العقول والنفوس لم يمكن فهمها (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) عونا يقرّر معناي في صورة العلم بمصداق البرهان (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لبعد حالي عن أفهامهم وبعدهم عن مقامي وحالي فلا بدّ من متوسط.
[٣٥ ـ ٤٣] (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))