بالنهاية. ثم إذا تجرّد وتزكّى عن صفات نفسه فليتابعه في موارد القلب ، أي : الصدق والإخلاص ، والتسليم والتوكل ، كما تابعه في منازل النفس ليحتظي ببركة متابعته بالمواهب والأحوال وتجلّيات الصفات في مقامه كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجلّيات الأفعال في مقام النفس ، وكذا في مقام السرّ والروح حتى الفناء. ومن صحة المتابعة تصديقه في كل ما أخبر به بحيث لا يعتوره الشك في شيء من أخباره وإلا فترت العزيمة وبطلت المتابعة ، فإن الأصل والعمدة في العمل الاعتقاد الجازم ، ولهذا مدحهم بقوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) إذ وعدهم الابتلاء والزلزال حتى ينخلعوا عن أبدانهم ويتجرّدوا في التوجه إليه عن نفوسهم في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (١).
(وَما زادَهُمْ) أي : وقوع البلاء بالأحزاب (إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) لقوّة اعتقادهم في البداية وصحة متابعتهم في التسليم ففازوا بمقام الفتوة والانخلاع بالبلاء وعن قيود النفس لسلامة الفطرة ، فوصفهم بالوفاء الذي هو كمال مقام الفتوة ، وسماهم رجالا على الحقيقة بقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي : رجال أيّ رجال ، ما أعظم قدرهم لكونهم صادقين في العهد الأول الذي عاهدوا الله عليه في الفطرة الأولى بقوة اليقين وعدم الاضطراب عند ظهور الأحزاب ، فلم يتنحوا بكثرتهم وقوّتهم عن التوحيد وشهود تجلي الأفعال فيقعوا في الارتياب ويخافوا سطوتهم وشوكتهم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) بالوفاء بعهده والبلوغ إلى كمال فطرته (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) في سلوكه بقوة عزيمته (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) بالاحتجاب بغواشي النشأة وارتكاب مخالفات الفطرة بمحبة النفس والبدن ولذاتهما والميل إلى الجهة السفلية وشهواتها فيكونوا كاذبين في العهد ، غادرين (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) جنات الصفات (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الذين وافقوا المؤمنين بنور الفطرة وأحبوهم بالميل الفطريّ إلى الوحدة ، وأحبوا الكافرين بسبب غواشي النشأة والانهماك في الشهوة ، فهم متذبذبون بين الجهتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وبهيئات نفوسهم المظلمة (إِنْ شاءَ) لرسوخها (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لعروضها وعدم رسوخها (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يستر هيئات النفوس بنوره (رَحِيماً) يفيض الكمال عند إمكان قبوله.
[٢٨ ـ ٣٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.