(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) النفس الكلية (وَقَوْمِهِ) من النفوس الناطقة السماوية وغيرها (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) أي : الصور المعقولة من حقائق العقول والأشياء وماهيات الموجودات المنتقشة فيها (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) مقيمون على تمثلها وتصوّرها وذلك عند عروجه من مقام الروح المقدّسة وبروزه عن الحجب النورية إلى فضاء التوحيد الذاتي ، كما قال عليهالسلام : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) (١) ، ومن هذا المقام قوله لجبريل عليهالسلام : أما إليك فلا.
(وَجَدْنا آباءَنا) عللنا من العوالم السابقة على النفوس كلها من أهل الجبروت (لَها عابِدِينَ) باستحضارهم إياها في ذواتهم لا يذهلون عنها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في حجاب عن الحق نوريّ ، غير واصلين إلى عين الذات عاكفين في برازخ الصفات لا تهتدون إلى حقيقة الأحدية والغرق في بحر الهوية (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي : أحدث مجيئك إيانا من هذا الوجه بالحق فيكون القائل هو الحق عزّ سلطانه أم استمر بنفسك كما كان فتكون أنت القائل فيكون قولك لعبا لا حقيقة له. فإن كنت قائما بالحق ، سائرا بسيره ، قائلا به ، صدقت وقولك الجدّ وتفوّقت علينا ، وتخلفنا عنك ، وإن كنت بنفسك فبالعكس (بَلْ رَبُّكُمْ) الجائي والقائل ربكم الذي يربكم بالإيجاد والتقويم والإحياء والتجريد والإنباء والتعليم ربّ الكل الذي أوجده (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) الحكم بأن القائل هو الحق الموصوف بربوبية الكل (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا الشهود هو شهود الربوبية والإيجاد وإلا لم يقل أنا وعلى إذ الشهود الذاتي هو الفناء المحض الذي لا أنائية فيه ولا اثنينية ، وتلك الاثنينية بعد الإفصاح بأن الجائي والقائل هو الحق الذي أوجد الكل مشعرة بمقام الكل المتخلف عن مقام (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأمحونّ صور الأشياء وأعيان الموجودات التي عكفتم على إيجادها وحفظها وتدبيرها ، وأقبلتم على إثباتها بعد أن تعرضوا عن عين الأحدية الذاتية بالإقبال إلى الكثرة الصفاتية بنور التوحيد (فَجَعَلَهُمْ) بفأس القهر الذاتي والشهود العيني (جُذاذاً) قطعا متلاشية فانية (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) هو عينه الباقي على اليقين الأول الذي به سمى الخليل خليلا (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) يقبلون منه الفيض ويستفيضون منه النور والعلم كما استفاض هو منه أولا.
[٥٩ ـ ٦١] (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))
(قالُوا) أي : قالت النفوس العاشقة بالعقول (مَنْ فَعَلَ هذا) الاستخفاف والتحقير (بِآلِهَتِنا) التي هي معشوقاتنا ومعبوداتنا بنسبتها إلى الاحتجاب والنظر إليها بعين الفناء وجعلها
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآيات : ٧٨ ـ ٧٩.