أوقدتموها أولا بإلقاء الحقائق والمعارف إليه التي هي حطب تلك النار عند رؤيته ملكوت السموات والأرض بإراءة الله إياه ، كما قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وإشراق الأنوار الصفاتية والأسمائية عند تجليات الجمال والجلال عليه من وراء أستار أعيانكم التي هي منشأ اتقاد تلك النار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي : معشوقاتكم ومعبوداتكم في الإمداد بتلك الأنوار وإيقاد تلك النار (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بأمر الحق.
[٦٩ ـ ٧١] (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))
(يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) بالوصول حال الفناء ، فإن لذّة الوصول تفيد الروح الكامل والسلامة عن نقص الحدثان وآفة النقصان والإمكان في عين نار العشق (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) بإفنائه وإحراقه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الأنقصين منه كمالا ورتبة (وَنَجَّيْناهُ) ولوط العقل بالبقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني الموهوب إلى أرض الطبيعة البدنية (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالكمالات العملية المثمرة والآداب الحسنة المفيدة والشرائع والملكات الفاضلة (لِلْعالَمِينَ) أي : المستعدّين لقبول فيضه وتربيته وهدايته.
[٧٢ ـ ٧٣] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) القلب للردّ إلى مقامه بتكميل الخلق حال الرجوع عن الحق (وَيَعْقُوبَ) النفس المرتاضة الممتحنة بالبلاء ، المطمئنة باليقين والصفاء (نافِلَةً) متنوّرة بنور القلب متولّدة منه (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) بالاستقامة والتمكين في الهداية (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) لسائر القوى والنفوس الناقصة المستعدة (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أما الروح فبالأحوال والمشاهدات والأنوار ، وأما القلب فبالمعارف والمكاشفات والأسرار ، وأما النفس فبالأخلاق والمعاملات والآداب ، وهي المراد بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) بالتوحيد والعبودية الحقّة في مقام التجريد والتفريد ، وهذا هو تطبيق ظاهر إبراهيم على باطنه. وقد يمكن أن يؤول بضرب آخر من التأويل مناسب لماقال النبي عليهالسلام : «كنت أنا وعليّ نورين نسبّح الله تعالى ونحمده ونهلّله ، وسبّحته الملائكة بتسبيحنا وحمدته بتحميدنا ، وهلّلته. فلما خلق آدم عليهالسلام انتقلنا إلى جبهته ومن جبهته إلى صلبه ثم إلى شيث» .. إلى آخر الحديث. وهو : أن الروح الإبراهيمي ، قدّسه الله تعالى ، كان كاملا في
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٥.