(يا يَحْيى) القلب (خُذِ) كتاب العلم ، المسمى بالعقل الفرقاني (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي : الحكمة (صَبِيًّا) قريب العهد بالولادة المعنوية (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي : رحمة بكمال تجليات الصفات (وَزَكاةً) أي : تقدّسا وطهارة بالتجرّد (وَكانَ تَقِيًّا) مجتنبا صفات النفس (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الروح والنفس (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي : تنزّه وتقدّس عن ملابسة المواد (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ) بالفناء في الوحدة (وَيَوْمَ يُبْعَثُ) بالبقاء بعد الفناء (حَيًّا) بالله.
[١٦ ـ ٢٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤))
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجرّدها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقرّ النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية. والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها ، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها ، كما أخبر عنه تعالى في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق ، حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرّك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها ، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم ، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا : قلبا ، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد بمنزلة الإنفحة في الجبن ، ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن أي : العقد من منيّ الذكر ، والانعقاد من منيّ الأنثى لا على معنى أنّ منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة