وقد وجهتم كيفية علم الغيب في الأشياء الخارجة ، فكيف توجيه علمه بذات الصدور الباطنة؟ قلنا : قد] اختلف في توجيهه ، فالمتكلمون [وسائر أهل الحق] قالوا : لأن علمه كامل ، وهو صفة قديمة قائمة بذاته عامة التعلق بالمعلومات الظاهرة والباطنة ، الكلية والجزئية ، كما إرادته عامة التعلق بالمرادات ، وقدرته عامة التعلق بالمقدورات.
والفلاسفة والمعتزلة لما كانوا يرون أن لا علم زائد على مفهوم ذاته ؛ قالوا : إن ذاته لما استغرقت الأزل والأبد وجودا كذلك استغرقت ما بينهما من المعلومات علما (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) [الأعراف : ٨٩].
[وزعموا أن الفرق بينه وبين غيره في عموم العلم وخصوصه هو هذا ، وهو أن علمه بالأشياء بذاته ، فعم علمه وعلم غيره بصفة زائدة على مفهوم ذاته ، فخص علمه بعض المعلومات دون بعض.
وقد سبق الكلام معهم في هذه المسألة.
وزعم بعض الأوائل : أن أرواح الخلق تعرج إليه كل يوم وليلة حال النوم ، فتفضي إليه بما تكنه الصدور ، ويأمرها بما يحرك به القلوب. كما حكاه ميخا النبي أو غيره من أهل الكتب الاثني عشر في (مرامية).
وأما الاتحادية فعندهم : أنه سار بذاته في الخلق ؛ فلذلك يعلم ما تكنه الصدور / [١٥٢ أ / م] وتوسوس به النفوس ، واستدلوا بنحو : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) [الواقعة : ٨٥] ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) [ق : ١٦] وغيره مما سبق من حجتهم في سورة الأنعام ، فهذا ما حضرنا الآن في هذا الجواب ، والأقرب إلى تنزيه الله ـ عزوجل ـ وأدلة الشرع ـ هو قول المتكلمين ، وهو مذهب المسلمين].
(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) [النمل : ٧٥] اعلم أن علمه ـ عزوجل ـ سبق بالكائنات / [٣٢٠ ل] في الأزل ، ثم أثبتها في الكتاب المبين وهو اللوح المحفوظ على وفق علمه الذاتي ، أو كما شاء ثم إنها في الواقع تقع على مطابقة ما سبق في العلم الأزلي والكتاب المبين.