استزلالا لعامتهم أن يؤمنوا ، واستدامة للرئاسة عليهم ، فلعلهم حرفوا هذه القصة إلى إسحاق لما سمعوها في القرآن مضافة إلى موسى إيقاعا للريبة في قلوب عوامهم.
وقد رأيت لأبي الفخر الإسكندري النصراني ـ وكان يهوديا فتنصر ـ أو لغيره جزءا جمع فيه ما حرفه اليهود من التوراة ، تحريف تبديل لا تحريف تأويل ، رأيت هذا الجزء عند أبي البشائر بن فرج الله النصراني الحكيم بقوص من بلاد الصعيد.
سلمنا أن القصة لم تحرف في التوراة ، لكن جاز أنها جرت لإسحاق وموسى جميعا ، فذكرت عن إسحاق في التوراة وعن موسى في القرآن دون التوراة ، على حسب اختيار المتكلم أو حكمته أو الداعي إلى ذلك.
ومع هذا الاحتمال لا يجوز القطع بالتحريف على أحد الموضعين.
كيف وإن عبد الله بسلام أعلم اليهود / [٣٢٤ ل] بالتوراة ومن تابعه منهم ـ مع علمهم بسورة القصص ـ لم يمتنعوا من الإسلام ، ولو صح عندهم ما قلتم لامتنعوا منه ، بل قامت عندهم براهين النبي صلىاللهعليهوسلم من التوراة وغيرها من كتب الأولين : فأسلموا.
قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) [القصص : ٤٦] احتج بها بعض أهل الذمة في كتاب له على أن محمدا إنما أرسل إلى العرب. لأنهم هم الذين ما أتاهم من نذير قبله ، أما / [١٥٤ ب / م] بنو إسرائيل فالنذر والرسل قبله فيهم كثير.
وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن المراد ما أتاهم من نذير من قبلك في هذه الفترة التي بينك وبين المسيح ، فطال العهد وحرفت الكتب ودخلت الملل ، فاحتيج إلى رسول يرشد الناس إرشادا خالصا من الريب ، وإليه الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) [القصص : ٤٥].
الوجه الثاني : هب أن المراد بالقوم الذين لم يأتهم نذير قبله هم العرب ، لكن ليس في الآية ما يقتضي تخصيص إرساله إليهم إلا بطريق مفهوم ضعيف ، لكن ذلك المفهوم لا يعارض نصوص القرآن في عموم الدعوة ، ثم إن من اعترف برسالته إلى العرب لزمه القول بعموم دعوته ؛ لأن مطلق رسالته ولو إلى قبيلة من العرب يستلزم صدقه ، وقد تواتر عنه أنه