من إبراهيم.
والمعتزلة قالوا : لا فائدة لذلك ؛ إذ حاصله افعل لا تفعل ، وهو تهافت ، ثم أجابوا عن القصة بوجوه :
أحدها : لا نسلم أنه رأى أنه مأمور بذبحه وإنما ظن أن سيرى بدليل قوله : إني أرى وهو مستقبل لا ماض ، ولهذا قال ابنه : افعل ما تؤمر بصيغة المستقبل ، أي إن أمرت بذبحي كما خطر لك أنه سيكون ، فافعل.
الثاني : سلمنا أنه أمر بشيء ، لكنه لم يؤمر بنفس الذبح بل بمقدماته كأخذ المدية والإضجاع والربط ونحوه ، وقد فعل ذلك بدليل : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥) [الصافات : ١٠٥] ولو كان مأمورا بنفس الذبح لما كان صدقها.
الثالث : سلمنا أنه أمر بذبحه ؛ لكن لا نسلم أنه نسخ قبل فعله ، بل فعله ، وكان كلما قطع جزءا من عنقه التحم ، فلم يفرغ من قطعها حتى التحمت جزءا فجزءا ، واعلم أن من تأمل القصة / [٣٥٢ ل] وسياقها علم بطلان هذه الوجوه بالضرورة واستغنى عن تكلف الجواب ، لكن لا بد من جوابها على العادة.
والجواب عن الأول ما سبق من استعمال المضارع بمعنى الماضي ، والمضارع أريد به الحال لا المستقبل ؛ لأنه لما رأى رؤياه في الليل أصبح وهو يتذكرها ويتخيلها في الحال ، وهو حال كل ذي رؤيا يذكرها ، فلذلك عبر عن الماضي بلفظ الحال ، وكذا قول ابنه (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) [الصافات : ١٠٢] أي ما أنت مأمور به في الحال ؛ لأنه مأمور في الحال بما كان أمر به في الماضي استصحابا لحاله ، إذ لم ينسخ عنه بعد ، وعن الثاني بأنه خلاف نص قوله : (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) (١٠٢) [الصافات : ١٠٢] ولم يقل ، إني أعزم على ذبحك ، ولأنه لو كان مأمورا بمقدمات الذبح لا غير / [١٦٩ أ / م] لما كان فيه امتحان ، ولا بلاء مبين ، والنص مصرح بأنه كان بلاء مبينا ، وأيضا لما كان فيه مزية لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ على غيره ، إذ صغار الناس إذا علم أنه مأمور بمقدمات ذبح نفسه لا غير ، لم يتوقف في فعل ذلك ، ورأى أنه مأمور بأنه يلعب.
وعن الثالث بأنه لو صح ، لكان أولى ما ذكر في القصة هو ، إذ هو أعظم وأعجب وأغرب وأتم نعمة على إبراهيم وابنه من الفداء بالكبش ، وقد ذكر وعظم إذ قال :