ودار امتحان ، فلابد أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة ، وهذا تحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأنّ الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه وشعره. ولهذا قال سبحانه : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).
ثم إنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله : (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
وبهذا يبين القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأنّ هذه الامور من الامور الواضحة النتائج ، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (١٨٧)
بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة اخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَاتَكْتُمُونَهُ). أي اذكروا إذ أخذالله مثل هذا الميثاق منكم.
من هذه التعابير يستفاد أنّ الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب ولكن خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق وأخفوا ما أرادوا إخفاءه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم : (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
ثم إنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).
إنّ الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّاأنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأنّ عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإنّ ذلك مما كتبه الله عليهم ، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.