الإبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب ، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء ، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء : ثمّ يغافلونهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإنسحاب المتتابع وكما يقول العرب : (الحرب كرّ وفرّ).
الصورة الثانية : أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال ، فينسحب للإلتحاق بإخوانه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.
وتختتم الآية محل البحث بالقول : إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إلى استحقاقه لغضب الله فإنّ مصيره إلى النار : (وَمَأْوَيهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
ومن ضمن الإمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام علي عليهالسلام وربّما يشير إلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله : «إنّي لم أفر من الزحف قطّ ، ولم يبارزني أحد إلّاسقيت الأرض من دمه» (١).
ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم ، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب ، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً ، وليتعلقوا به طلباً لألطافه ، فإنّ الآية التالية تقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى).
وتشير الآية في ختامها إلى لطيفة مهمة اخرى ، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان واختبار ، إذ تقول : (وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).
لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي إنّ الله سمعَ صوت استغاثة النبي والمؤمنين ، واطلع على صدق نيّاتهم ، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم ، وأنّ الله يعامل عباده بهذه المعاملة حتى في المستقبل ، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم.
وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ما سمعتم ، فيقول : (ذلِكُمْ). ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلة : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ).
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)
__________________
(١) تفسير نور الثقلين ٢ / ١٣٩.