إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً ، كم داخلها من الرعب والإضطراب عند مشاهدة هذا المنظر ، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها ، ولذلك فإنّها مباشرة : (قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا). وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.
إنّ ذكر اسم الرحمان ، ووصفه برحمته العامة من جهة ، وترغيب الرجل في التقوى والإمتناع عن المعصية من جهة اخرى ، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيّئة في إرتكاب المعصية.
لقد كانت مريم تنتظر ردّ فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوّهت بهذه الكلمات إنتظاراً مشوباً بالإضطراب والقلق الشديد ، إلّاأنّ هذه الحالة لم تطل ، فقد كلّمها ذلك الشخص ، ووضّح مهمّته ورسالته العظيمة (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ).
لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار ، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر ، إلّاأنّ هذا الإطمئنان لم يدم طويلاً ، لأنّه أضاف مباشرة : (لِأَهَبَ لَكِ غُلمًا زَكِيًّا).
لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام ، وغاصت مرّة اخرى في قلق شديد : (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).
لقد كانت تفكّر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط. إلّاأنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إليها ، فقد خاطب مريم بصراحة : (قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ). فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيّداً ... أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك ، أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفّتك وطهارتك ... أنت التي تعلمين أنّ جدّك آدم قد خلق من التراب ، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟
ثم أضاف : (وَلِنَجْعَلَهُءَايَةً لّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا). فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا ، ونجعله معجزة ، وعلى كل حال ، (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا). فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.
(فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) (٢٦)