إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع : تزيح هذه الآيات الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النبي الكبير ـ كسائر المرشدين الإلهيين ـ تبدأ من نقطة التوحيد ، فتقول أوّلاً : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيًّا).
إنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإلهي أن يوصلوا أوامر الله إلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر ـ والأب هنا إشارة إلى العم ، فإنّ كلمة الأب ، كما قلنا سابقاً ، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب ، وأحياناً بمعنى العم ـ فتقول : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَايَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيًا).
إنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان ، لأنّ أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة ، والضرر والنفع ، والذي يعبّر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول : لماذا تتّجه إلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب ، بل إنّه لا يملك أصلاً القدرة على السمع والبصر.
بعد ذلك دعاه ـ عن طريق المنطق الواضح ـ إلى اتّباعه ، فقال : (يَا أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا). فإنّي قد وعيت اموراً كثيرة عن طريق الوحي ، وأستطيع أن أقول باطمئنان : إنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ ، ولا أدعوك أبداً إلى هذا الطريق المعوج.
ثم يعطف نظره إلى الجانب السلبي من القضية بعد ما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة ، فيقول : (يَا أَبَتِ لَاتَعْبُدِ الشَّيْطنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا).
إنّ العبادة هنا بمعنى الطاعة واتباع الأوامر ، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.
ثم يذكّره وينبّهه مرّة اخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة ، ويقول : (يَا أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطنِ وَلِيًّا).
إنّ تعبير إبراهيم هذا رائع جدّاً ، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً ب (يَا أَبَتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب ، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أَن يَمَسَّكَ) توحي بأنّ