وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم ، فإنّه يضيف مباشرة : (يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً). وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية ، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها ، سواء ما يتعلق بالشافعين أو المشفوع لهم ، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة ، فلا معنى حينئذ لها.
ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم ، فإنّ الآية التالية تضيف : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا ، وهو مطّلع على كل أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزاء في المستقبل ، إلّاأنّهم لا يحيطون بعلم الله ، وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم ، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التام العادل.
في ذلك اليوم : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ).
«العنت» : من مادة العنوة ، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة ، ولذلك يقال للأسير : «عاني» ، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر ، وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا ، فلأنّ كل الإحساسات النفسية ، ومن جملتها الخضوع ، تظهر آثارها أوّلاً على وجه الإنسان.
إنّ إنتخاب صفتي (الحي والقيوم) هنا من بين صفات الله سبحانه ، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».
وتختتم الآية بالقول : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان ، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة.
ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل ، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم ، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (١).
التعبير ب (مِنَ الصَّالِحَاتِ) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كل الصالحات فليقوموا ببعضها ، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة ، كما أنّ العمل الصالح
__________________
(١) «الهضم» : بمعنى النقص ، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن : هضم ، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.