«القصم» : يعني الكسر المقترن بالشدة ، فإنّها توحي بأنّ الله سبحانه قد أعدّ أشدّ العقاب والإنتقام للأقوام الظالمين الجائرين.
عند ذلك توضّح الآية حال هؤلاء عندما تتّسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم العامرة ، وعجزهم أمام العقاب الإلهي ، فتقول : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ) (١).
إلّا أنّه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع : (لَاتَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسَلُونَ).
إنّ هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك النعمة الوفيرة ، كان السائلون وطالبو الحاجات يترددون دائماً إلى أبوابهم ، يأتون والأمل يقدمهم ، ويرجعون بالخيبة والحرمان ، فالآية تقول لهم : إرجعوا وأعيدوا ذلك المشهد اللعين ، وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.
إنّ هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر ، ويرون ما كانوا يسخرون منه من قبل قد تجلّى أمامهم بصورة جديّة تماماً ، فتعلو صرختهم : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
إلّا أنّ هذا الوعي الاضطراري للإنسان عندما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة له ، ولا يؤثّر في تغيير مصير هؤلاء ، ولذلك فإنّ القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث يضيف : (فَمَا زَالَت تّلْكَ دَعْوَيهُمْ حَتَّى جَعَلْنهُمْ حَصِيدًا) فيلقونهم على الأرض كالزرع المحصود ، وتبدّل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة والعمران إلى قبور مهدّمة مظلمة ، فيصبحوا (خمِدِينَ) (٢).
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨)
خلق السماء والأرض ليس لهواً : لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي : إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلّاالأكل
__________________
(١) «الركض» : يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه ، أو بمعنى إركاض المركب والدابة ، ويأتي أحياناً بمعنى ضرب الرجل على الأرض ؛ مثل (أُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) ـ سورة ص / ٤٢.
(٢) «خامد» : من مادّة الخمود ، بمعنى إنطفاء النّار ، ثُمّ اطلقت على كل شيء يفقد حركته وفاعليّته ونشاطه.