ثم تشير إلى الدليل الأخير فتقول : (هذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى) وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان : (إجماع وإتّفاق الأنبياء على التوحيد).
ولما كانت كثرة المشركين (وخاصةً في ظروف حياة المسلمين في مكة ، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعاً أحياناً من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد ، فهي تضيف : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ).
لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلاً وحجة لإعراض الغافلين الجاهلين دائماً ، وقد إنتقد القرآن الإستناد إلى هذه الأكثرية بشدة في كثير من الآيات ، سواء التي نزلت في مكة أو المدينة.
ولما كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلاً دعوا إلى آلهة متعددة ، فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محل البحث بصراحة تامة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك ، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وإفتراء.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩)
لمّا كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء ، ونفي كل أنواع الشرك ، ونفي كون المسيح عليهالسلام ولداً ، فإنّ كل الآيات محلّ البحث تتحدّث حول نفي كون الملائكة أولاداً.
وتوضيح ذلك أنّ كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه ، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحياناً ، والقرآن الكريم إنتقد هذه العقيدة الخرافية التي لا أساس لها ، وبيّن بطلانها بالأدلّة المختلفة. يقول أوّلاً : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا). فإن كان مرادهم الولد الحقيقي ، فإنّه يلزم من هذا الجسمية ، وإن كان المراد التبنّي ـ والذي كان إعتيادياً ومتداولاً بين العرب ـ فإنّ ذلك أيضاً دليل على الضعف والإحتياج ، إلّاأنّ الوجود الأزلي الأبدي وغير الجسماني ، وغير المحتاج من جميع الجهات ، لا معنى لوجود الولد له ، ولذلك فإنّ القرآن يقول مباشرةً : (سُبْحنَهُ).