وأخيراً تشكّلت المحكمة ، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك ، ويقول بعض المفسرين : أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة ، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم عليهالسلام هو أن : (قَالُواءَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بَالِهَتِنَا يَا إِبْرهِيمُ).
فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم ، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ).
إنّ من اسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة ، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير ، [وفقاً للرواية المعروفة : إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].
لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة ، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.
ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم ، كما يقول القرآن : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ). فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه ، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدسة.
ولكن للأسف ، فإنّ صدأ الجهل والتعصب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.
ولم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة ، ورجع كل شيء إلى حالته الاولى ، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ). ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البُكْم قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلَاءِ يَنطِقُونَ). وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.
وهنا فُتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته : (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَنفَعُكُمْ شَيًا وَلَا يَضُرُّكُمْ).
ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام ، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس ، فقال : (أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). إلّاأنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلّا يلجّوا في عنادهم.
ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به ، وهم وإن قلّوا عدداً ، إلّاأنّهم كانوا من الأهمية بمكان ، إذ هيّأوا الاستعداد النسبي لفئة اخرى.