تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد ، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويين لإثبات المعاد الجسماني : أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين ، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.
والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره : (يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (١). كل ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأيّ عمل (لِّنُبَيّنَ لَكُمْ). فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها ، ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل (وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى). ثم تبدأ الأجنّة مرحلة تطور جديدة ، لنخرجكم أطفالاً من أرحام امهاتكم ، (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون امهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء ، وإمكانات واسعة جدّاً ، إلّاأنّ تكاملكم يستمر في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف ، ألا وهو الرشد والكمال الجسمي والعقلي ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ). وهنا يتبدل الجهل إلى علم ، والضعف إلى قوة ، والتبعية إلى الاستقلال ، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمر آخرون حتى المرحلة الأخيرة من الحياة ، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم : (وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
أجل ، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكر فيها شيئاً ، حيث يسيطر عليه النسيان ، ويصبح في وضع وكأنّه طفل (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيًا). وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة إنتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج مما يدل على وصولها إلى مرحلة الإنفصال.
ثم تتناول الآية بيان الدليل الثاني أي حياة النباتات ، فتبيّن ما يلي : انظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة ، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع ، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢).
__________________
(١) «المضغة» : مشتقة من «المضغ» وتعني مقداراً من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة ، وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.
(٢) «الهامدة» : تعني في الأصل النّار التي أطفئت ، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة ـ