والتعبير عن الرحم ب «قرار مكين» ، أي القرار الآمن ، إشارة إلى أهمية الرحم في الجسم ، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات ، يحفظه العمود الفقري من جهة ، وعظم الحوض القوي من جهة اخرى ، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة ، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له ، وكل ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.
ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة ، واتخاذها شكلاً معيّناً في كل منها في ذلك القرار المكين ، حيث تقول : إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثم بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة) ، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاماً ، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظمًا فَكَسَوْنَا الْعِظمَ لَحْمًا).
وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر ـ في الحقيقة ـ أهمّ مرحلة في خلق البشر ، بعبارة عميقة وذات معنى كبير : (ثُمَّ أَنشَأْنهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ). مرحباً بهذه القدرة الفريدة ، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة ، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الامور المدهشة.
طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير ، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كل هذه القابليات والجدارة ، تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.
وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ ـ بشكل دقيق وجميل ـ إلى مسألة المعاد حيث تقول : (ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيّتُونَ).
ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كل شيء ، تقول الآية : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ تُبْعَثُونَ). أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات ، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢)