الإدعاءات الكبيرة : الآيات الحالية ، تطرح شكلين آخرين من ذرائع المشركين وتجيب عليها ، فيقول تعالى أوّلاً : (وَقَالَ الَّذِين لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا). فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا ، لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده ، ولا نراه نحن ، فهذا ما لا يمكن القبول به.
وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوّة النبي ، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق ، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته ، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً ، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك ، حيث ورد شرحه في الآية (١٤٣) من سورة الأعراف. لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا). «العتو» : على وزن «غلو» ، بمعنى الإمتناع عن الطاعة ، والتمرد على الأمر ، مصحوباً بالعناد واللجاجة.
وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى : أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.
ثم يقول تعالى بصيغة التهديد : إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة ، سوف يرونهم آخر الأمر ، لكن (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ).
بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم ، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة ، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الاستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإحساس بالخطر أمام الآخرين ، فيقولون : الأمان .. الأمان ، اعفوا عنّا : (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا).
«حجر» : على وزن «قشر» ، تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود ، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأنّ حائطاً انشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الإنسان من الأعمال المخالفة. وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية ٨٠ من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال ، فكانوا يعيشون في أمانها.
أمّا جملة «حجراً محجوراً» فقد كانت اصطلاحاً بين العرب ، إذا التقوا بشخص يخافونه ، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.