إنّ موسى عليهالسلام بدأ في المرحلة الاولى ب «الآيات الآفاقية» ، وفي المرحلة الثانية أشار إلى «الآيات الأنفسية» ، إلّاأنّ فرعون تمادى في حماقته ، وتجاوز مرحلة الاستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون ، ف (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين ، إلّاأنّ هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى عليهالسلام ومعنوياته العالية ، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس ، مبيناً خط التوحيد الأصيل ف (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ).
فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر ، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً ، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات.
غير أنّ هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة ، فالتجأ إلى استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار ، فجابه موسى و (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).
إنّ فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الإرهابي ، لأنّ مواصلة موسى عليهالسلام بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس.
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧)
رأينا في الآيات المتقدمة أنّ فرعون يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام ، وهنا يقلب موسى عليهالسلام صفحة جديدة ، فعليه أن يسلك طريقةً اخرى يخذل فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوة أيضاً ، القوة الإلهية التي تنبع من الإعجاز ، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍ مُّبِينٍ).
وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود ، لأنّ موسى عليهالسلام أشار إلى خطّة جديدة ولفت انظار الحاضرين نحوه ، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه ، لإعترض عليه الجميع.