بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسنحت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم ، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثلاً ـ بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس
عليها. وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم ، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخية : (قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ).
وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم ، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان» ، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى عليهالسلام : (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغلِبُونَ) (١).
وهنا ـ كما يبيّن القرآن في الآية (٦٦) من سورة طه ـ تحركت العصيّ كأنّها الأفاعي والثعابين و (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).
فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً ، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه ، إلّاأنّ موسى عليهالسلام لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير ، فتقدم : (فَأُلْقِىَ مُوسَى عَصَاهُ) فتحولت إلى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة : (فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) (٢).
وهنا فر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد ، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة ...
وتبدّل كل شيء ، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة ، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه ، فإنّهم تيقنوا أنّ عصا موسى لم تكن سحراً ، بل هي معجزة إلهية كبرى : (فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سجِدِينَ).
واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم ف (قَالُواءَامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ). ولئلّا يبقى مجال للإبهام والغموض والتردد ، ولئلّا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنّهم قالوا : (رَبّ مُوسَى وَهرُونَ).
__________________
(١) «الحبال» : جمع «حبل» على وزن (طبل) ومعناها واضح ؛ و «العصي» : جمع العصا.
(٢) «تلقف» : مشتق من «اللقف» على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشيء بسرعة ، سواء كان ذلك باليد أم الفم ، ومعلوم أنّ المراد هنا الإمساك بالفم والإبتلاع.
«يأفكون» مشتق من «الإفك» ومعناه الكذب ، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.