لا يفلح الكاذبون : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإلهية ومسألة شكر النعمة ، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي احدثت في دين الله ، وتشرع بالقول : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (١).
إنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد ، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم ، والدم من أكثر مكوّنات البدن تقبّلاً للتلوّث بالجراثيم ، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإصابة بالكثير من الأمراض الخطرة.
أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير الله فليست صحية ، بل هي أخلاقية ومعنوية.
فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام ، ومن جهة اخرى يكون دعوة إلى خالق هذه النعم.
ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإسلام يوصي بالإعتدال في تناول اللحوم ، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية ، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر ، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).
وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني ، ذُكرت الحالات والموارد الاستثنائية ، يقول : (فَمَنِ اضْطُرَّ). كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء ؛ (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
«باغ» أو الباغي : (من البغي) بمعنى «الطلب» ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرّم الله. و «عاد» أو العادي : (من العدو) أي «التجاوز» ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.
وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل ، والذي تطرّق القرآن إليه سابقاً بشكل غير مباشر ، فتأتي الآية لتطرحه صراحة حيث
__________________
(١) «اهِلّ» : من الإهلال ، مأخوذُ من الهلال ، بمعنى إعلاء الصوت عند رؤية الهلال ، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عالياً بأسماء أصنامهم ، فقد عبّر عنه ب «اهِلَّ».