الآيسون من رحمة الله : هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الاولى من هذا المقطع الناس إلى «السير في الآفاق» في مسألة المعاد ... في حين أنّ الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر. يقول القرآن : (قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). انظروا إلى أنواع الموجودات الحية ، والاقوام والامم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولاً ، ثم إنّ الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر أيضاً على ايجادها في الآخرة : (ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْأَخِرَةَ) ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أوّلاً ، إذن ف (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).
فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد ..
«النشأة» : في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحياناً عن الدنيا بالنشأة الاولى ، كما يعبر عن الاخرى بالنشأة الآخرة.
ثم يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول : (يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).
ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّاأنّ الآية هنا تبدأ أوّلاً بذكر العذاب ثم الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الاسلوب.
وإكمالاً لهذا البحث الذي يبيّن أنّ الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير ... فليس الأمر كذلك ؛ (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ) (١).
وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محضٌ أيضاً : (وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِنْ وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ).
وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين .. لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يِسُوا مِنْ رَّحْمَتِى). ثم يضيف مؤكداً : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.
__________________
(١) «معجزين» : مشتقة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ؛ «المعجزة» : معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً ، وحيث إنّ الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً.