أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً ، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري.
وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أنّ الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة اخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي.
ولعل ذكر النبوة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد.
إنّ الآية تقول : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ). أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ونصرنا المؤمنين (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى : «إنّ نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».
أمّا الآية الاخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول : (اللهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) (١). أي القطع الصغيره المتراكمة ثم تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِللِهِ) (٢).
ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلاً : (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
ثم تأتي الآية الاخرى بعدها فتقول : (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٣).
وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء ، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات.
__________________
(١) «الكِسَف» : جمع «كسفَة» ومعناها القطعة ، وهي هنا ـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات (من الغيوم) المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.
(٢) «الودق» : على وزن (الحلق) ، وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحياناً.
(٣) «مبلس» : مأخوذة من مادة الإبلاس ، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.