إضافة إلى ذلك ، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمة ، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين ، أصحاب الأموال ، البعيدين عن الله تعالى ، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد.
الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص ، على أنّها أصل عام ، وقاعدة سارية ، إذ تقول : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ) وفقاً لهذه القاعدة والسنّة ، ثم تضيف بعد ذلك : (وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). أي : إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لرب العالمين.
أمّا لماذا أكّدت الآية على القرون من بعد نوح عليهالسلام؟ فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوح عليهالسلام كانت حياة بسيطة ، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مُترف ومستضعف ، كانت بسيطة وضئيلة ، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)
طلّاب الدنيا والآخرة : لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى ، وكيفية هلاكهم ، لذا فإنّ هذه الآيات ـ التي نحن بصددها الآن ـ تشير إلى سبب التمرّد على شريعة الله ، والعصيان لأوامره ، وهذا السبب هو حبّ الدنيا ، إذ يقول تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا).
«العاجلة» : تعني النعم الزائلة ، أو الحياة الزائلة.
والظريف في الآية ، أنّها لا تقول : إنّ من يسعى وراء الدنيا ، ويجعلها كل همّه ، يحصل على كل ما يريد ، بل قيّدت ذلك بشرطين هما :
أوّلاً : سيحصل على جزء مما يريده ؛ وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن ، أي (مَا نَشَاءُ).