أمام هذا اللبس ، وتمنع هذا الظن ، عندما تقول : (كَلَّا نُّمِدُّ هؤُلَاءِ وَهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ) لتضيف بعدها بقليل : (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا).
هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس ، المؤمن والكافر ولكن هناك نعم لا تحصى وراء ذلك تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.
الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول : كما أنّ السعي في هذه الدنيا متفاوت ، وتتفاوت معه الأجور ، فكذلك الأمر في الآخرة ، ولكن التفاوت الدنيوي محدود ، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة ، وأمّا الآخرة ـ ولكونها غير محدودة ـ فإنّ تفاوتها غير محدود ، إذ يقول تعالى : (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْأَخِرَةِ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).
هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟ إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإمكاناتها المادية ، ولكن ، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية ، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير اخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة.
هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية ، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والروايات الإسلامية.
إنّه إذا تمّت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر من النعم الإلهية ؛ ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود ، وتمّت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي ، فإنّ ذلك يعتبر أمراً جيّداً ، وتمتدح معه الدنيا ، أمّا إذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة ، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية ، عندها سيُصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.
(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)