هذه العلاقة القوية وخلوص النية لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّاما فيه خير وصلاح الولد ، فتقول أوّلاً : (وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ). وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الام العظيمة ، فتقول : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ).
وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية ، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يُصبن بالضعف والوهن ، لأنّهن يصرفن خلاصة وجودهن في تغذية وتنمية الجنين ، ويقدّمن له من موادهن الحياتية أفضلها.
وهذا الأمر يستمر حتى في فترة الرضاعة ، لأنّ اللبن عصارة وجود الام ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان : (وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ). كما اشير إلى ذلك في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ). والمراد فترة الرضاعة الكاملة ، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.
ثم تقول : (أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ). فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك ، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين ، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك.
ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب : (إِلَىَّ الْمَصِيرُ).
فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كل هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله.
إنّ الوصية بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ، لكن الآية التالية تقول : (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا).
فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بامّه وأبيه مقدمة على علاقته بالله مطلقاً ، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينية أبداً.
ولما كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما ، ولذلك أضافت الآية إنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلاً على وجوب قطع العلاقة معهما ، بل تأمره الآية أن : (وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
فلأطفهما وأظهر المحبة لهما في الحياة الدنيوية والمعاشرة ، ولا تستسلم لأفكارهما