إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر ، وأنّ كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله ، وكل ما نفعله فهو برضاه.
وتجيب الآية في النهاية على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام ، فتقول : (مَّا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم ، بل هم ـ ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين ـ يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد ، فيقولون : إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا.
«يخرصون» : من «الخرص» ، وهو في الأصل بمعنى التخمين ، وأطلقت هذه الكلمة أوّلاً على تخمين مقدار الفاكهة ، ثم أطلقت على الحدس والتخمين ، ولمّا كان الحدس والتخمين يخطيء أحياناً ولا يطابق الواقع ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً ، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.
وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به ، فتقول : (أَمْءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ). أي : يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الإدّعاء ، أو بدليل النقل ، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل ، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعو إلى التوحيد ، وكذلك دعا كل الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.
وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى ذريعتهم الأصلية ، وهي في الواقع خرافة لا أكثر ، أصبحت أساساً لخرافة اخرى ، فتقول : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَاءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ).
لم يكن لهؤلاء دليل إلّاالتقليد الأعمى للآباء والأجداد ، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد ، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري ، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل».
(وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥)