ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الإتّساع وبهذه النعم ، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة ، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية ـ فقط ـ هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله ، إذ إنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل ، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.
ولمزيد من التأكيد على عدم التعلق بالدنيا ، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها ، أو الحزن عند إدبارها ، يضيف سبحانه : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).
إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة ، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان ، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.
والجدير بالإنتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها ، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للإجتناب ، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات والالتزامات الإلهية ، فإنّ لمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.
والمقصود من اللوح المحفوظ هو : العلم اللا متناهي لله سبحانه ، أو صحيفة عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول ، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه.
ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ ، ومن ثم بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟
الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهم حيث يقول تعالى : (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَاءَاتَاكُمْ).
هاتان الجملتان تحلّان ـ في الحقيقة ـ إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة ، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود ، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو : رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم .. ، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟!
ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو : ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة ... كما ورد في الآية أعلاه.
هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات ، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.
إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية :