كان الحديث عن المنافقين وأعداء الله وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في الآيات السابقة ، واستمراراً لنفس البحث ـ في هذه الآيات التي هي آخر آيات سورة المجادلة ـ تطرح خصوصيات اخرى لهم ، ويتّضح المصير الحتمي لهم حيث الموت والإندحار. يقول تعالى في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الْأَذَلّينَ) (١). أي أذلّ الخلائق.
والآية اللاحقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ).
وبنفس القدر الذي يكون فيه الله قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلّاء ، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم (فِى الْأَذَلّينَ).
ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الإنتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة ، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك ، وكذلك في الإنتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة ، وسائر غزوات رسول الأكرم صلىاللهعليهوآله.
وأهمّ من ذلك كلّه إنتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء الحق والعدالة.
آخر آية مورد البحث ـ والتي هي آخر آية من سورة المجادلة ـ تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ الله وحبّ أعدائه ، إذ لابدّ من اختيار طريق واحد لا غير ، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم اجتناب حبّ أعداء الله. يقول تعالى : (لَّاتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).
إنّ حبّ الآباء والأبناء والاخوان والعشيرة شيء ممدوح ، ودليل على عمق العواطف الإنسانية ، إلّاأنّ هذه المحبة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيتها.
ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى ، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من الله تعالى ، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ... وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مّنْهُ).
__________________
(١) يحادّون : من مادة محادّة بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح ، أو بمعنى الممانعة.