هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلّاأنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشد في يوم القيامة.
في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدّاً ، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له.
لذا يقول سبحانه بعد ذلك : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ).
ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول : (إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلقٍ حِسَابِيَهْ).
«ظن : في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول : إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية ، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.
ثم يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول : (فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ).
وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كل ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع ، إلّاأنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر : (فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ).
إنّ الجنة تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها.
(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) (١). حيث لا جهد مكلّف ولا مشقة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء.
وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه الباريء عزوجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة الإلهية واللطف الرباني.
والسؤال المطروح هو : هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقاً لما جاء في الآية الكريمة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟
__________________
(١) قطوف : جمع قطف بمعنى أن الثمر قد اقتطف ، وتأتى أحياناً بمعنى الثمار المهيئة للإقتطاف أيضاً.