د) مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية ، فإنّ شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح ، ثم تسري إلى الخارج ، فتعذب روح الإنسان أوّلاً ، ثم تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل ، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله : (نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١).
ه) عدم إحتياج هذه المحكمة إلى شهود ، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه ، نافعة كانت له أم ضارة ؛ كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث ، فيقول تعالى : (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم) (٢).
وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد ، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.
(فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (١٥)
أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة ، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.
فتشير أوّلاً إلى الحوادث السابقة للبعث ، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين في الأنظمة الكونية فيقول تعالى : (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ). بمعنى اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ).
وفي ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر ، فيحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس باتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك ، وينتهي بالتالي ضياؤهما.
فيقول تعالى في سورة التكوير : (إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ). أي إذا أظلمت الشمس ، ونعلم
__________________
(١) سورة الهمزة / ٦ و ٧.
(٢) سورة فصّلت / ٢٠.