ثم يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار ، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة اخرى ، فيقول تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ). أي تافه وحقير : (فَجَعَلْنهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ).
مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان ، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.
ثم يضيف تعالى : إنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة : (إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ).
مدة لا يعلمها إلّاالله تعالى ، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدّي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.
ثم يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأنّ الله تعالى نعم القادر : (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ). وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أوّل سورة الحج : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).
ثم يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ). الويل لُاولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثم ينكرونها.
ثم يقول تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا).
«كفات : على وزن (كتاب) ، وكفت على وزن (كشف) هو جمع وضم الشيء للآخر ، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور كفات لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.
والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر ، إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهييء لهم جميع ما يحتاجونه ، وتضم أمواتهم في بطنها ، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.
ثم يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض ، فيضيف : (وَجَعَلْنَا فِيهَا