وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجن والإنس بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).
هذه النعم التي يدلّ كل هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟
إنّ هذا الاستفهام استفهام تقريري جيء به في مقام أخذ الإقرار ، وقد قرأنا في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شيء من آلائك ربّي اكذّب) بعد كل مرّة نتلو فيها الآية الكريمة : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).
إنّ التعبير ب (أيّ) إشارة إلى أنّ كل واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه ، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة.
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (١٨)
الصلصال وخلق الإنسان : إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها (خَلَقَ الْإِنسَانَ) ، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجن كدليل على قدرته العظيمة من جهة ، وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى ، فيقول سبحانه : (خَلَقَ الْإِنسنَ مِن صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ).
«صلصال : في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردد الصوت في الأجسام الصلبة) ، ثم اطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً.
«فخار : من مادة فخر بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً ، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكل إناء من الطين أو الكوز ، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها.
ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان ، أنّه كان من التراب ابتداءً. قال تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ) (١). ثم خرج مع الماء وأصبح طيناً :
__________________
(١) سورة الحجّ / ٥.